تأثير الترجمة الآلية على المترجمين
الدكتور هيندريك جي كوكارت، أستاذ ومدير دراسات الترجمة التحريرية والشفوية بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة حمد بن خليفة
[تأثير الترجمة الآلية على المترجمين]
في عالم الاتصالات المتطورة للغاية في عصرنا الحالي، لا يمكن للباحثين في مجال دراسات الترجمة وممارسيها غض الطرف عن برامج " Google Translate" و" Linguee"، و" MateCat"، و" DeepL" على سبيل المثال لا الحصر، حيث تقدم أدوات الترجمة المذكورة والمتاحة بشكلٍ مجاني محتوى موجَهًا سريعًا ومجانيًا. ولكن، هل يمكن اعتبار هذه الأدوات صِنوًا للمهارات البشرية الفطرية؟
صاغت المنظمة الدولية للمعايير (الأيزو) معيارًا جديدًا حول الترجمة الآلية، وأصبح هذا المعيار جاهزًا للنشر. ورغم اعتراف المعيار بالنمو الذي لا يمكن إيقافه لنظم الترجمة الآلية، إلا أنه يحذرنا كذلك من "عدم وجود أي نظام للترجمة الآلية قادر على طرح مخرجات يمكن أن تتأهل لكي تكون صِنوًا لمخرجات الترجمة البشرية."
وتتزايد وتيرة الأبحاث التي تُجرى في مجال الترجمة الآلية، وهي ترجمة النصوص آليًا من لغة طبيعية إلى لغة أخرى باستخدام تطبيقات الحاسوب الآلي، والمجالات الفرعية المرتبطة بها، مثل الترجمة الآلية العصبية، والتوطين، والتنقيح، والمراجعة، وذاكرات الترجمة، والترجمة باستخدام المتون، والترجمة بمساعدة الحاسوب. ويعزز البحوث المرتكزة على الترجمة الآلية بشكلٍ إضافي السعي للوصول إلى فهم أفضل لتأثير الترجمة الآلية على الإنتاجية، والجودة المستدامة، وبيئة العمل الخاصة بالمترجمين. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الاهتمام بالأبحاث المتعلقة بتأثير الترجمة الآلية على مهنة الترجمة، والمجتمع متعدد اللغات في الوقت الراهن، بات يحظى بأولوية عند إعادة صياغة برامج التعليم العالي المرتبطة بدراسات الترجمة. ولكن، إلى أي مدى يتوافق هذا الهدف مع الواقع العملي؟
ولفهم تأثير تقنيات الترجمة الآلية على مناهج الترجمة في الجامعات، يمكننا دراسة أنظمة الترجمة الآلية التي تسيطر على مشهد الترجمة اليوم.
وكان الدكتور آرل لوميل، كبير المحللين في شركة كومان سنس أدفايزري ريسيرش، قد توقع في عام 2016 أن "غالبية الشركات متعددة اللغات ستستخدم الترجمة الآلية في عام 2019 بشكلٍ أو بآخر، مع تحقيق قطاع التنقيح اللاحق للترجمة الآلية لأسرع معدل نمو." وارتأت شركة كومان سنس أدفايزري ريسيرش أن الترجمة البشرية ستحقق نموًا أيضًا، ولكن بوتيرة أبطأ. وأشارت دراسة أجرتها الشركة إلى أن مقدمي خدمات الترجمة الذين يستخدمون أدوات الترجمة الآلية عززوا بشكل كبير من عائداتهم الاستثمارية مقارنةً بالمقدمين التقليديين لخدمات الترجمة.
وتشدد معايير منظمة "الأيزو" بشكل صائب على أهمية الترجمة البشرية وجودتها، حيث ترى أن المترجمين البشريين سيظلون هم المقدمون الوحيدون لمستوى الجودة المأمول. وتربط هذه المعايير، مثلما فعل الدكتور آرل، الترجمة البشرية بجودة الترجمة الآلية، وتقترح طرقًا جديدةً للوصول إلى هذا المستوى من الكمال، الذي سيكون جزءًا أساسيًا من مناهج دراسات الترجمة في المستقبل. وسيتم الاستعاضة عن الترجمة البشرية بالتنقيح
اللاحق للترجمة الآلية "بجودة بشرية"، وهو ما يبدو للوهلة الأولى عامرًا بترجمات تتراوح جودتها من المقبول إلى المتوسطة.
من التعليم الآلي إلى التنقيح اللاحق
يبدو أن الترجمة الآلية أثارت نموذجًا جديدًا لضمان الجودة يُعاد تسمية "المراجعة" فيه بشكل متزايدٍ إلى "التنقيح اللاحق". وبالمصطلحات التجارية، يشير مصطلح "التنقيح اللاحق" إلى زيادة الإنتاجية1، بينما يُفضي المصطلح نفسه، وفقًا للمصطلحات التعليمية والأكاديمية، إلى تحديثات للمناهج وفرصٍ بحثيةٍ جديدة على حساب رسالته التي تتمثل في الارتباط باستمرار بالاحتياجات المهنية والأكاديمية. وتتمثل الفائدة الفرعية التي تضيفها الترجمة الآلية في أن الوضع المهني للمترجمين قد يأخذ منعطفًا إيجابيًا. فبعد اكتسابه لخبرات معرفة العبارات والمصطلحات المحددة والمرتبطة بنطاق التنقيح اللاحق، سيظل المترجم/ المحرر الجديد يحظى بالاحترام على المستوى المهني، وهو ما يتناقض مع الروايات الأسطورية التي نسمعها في كثير من الأحيان حول تسبب الترجمة الآلية في تحويل المترجمين البشريين إلى مجرد آلات. وكان الدكتور إجناسيو جارسيا قد أجرى تجربة في عام 2010 2، ترجم بموجبها فريقان من المترجمين المتدربين قطعة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الصينية، حيث ترجم فريق هذه القطعة بدون استخدام أداة "جوجل ترانسليت"، بينما اعتمد الفريق الثاني في ترجمته على تلك الأداة. وتوصلت التجربة إلى أن الترجمة كانت أعلى جودةً عندما اعتمدت على طريقة التنقيح اللاحق للترجمة بأداة "جوجل ترانسليت".
وبعد سلسلة من التجارب المماثلة، توصلت لوسيانا راموس 3 إلى جدوى استخدام الترجمة الآلية في مشاريع الترجمة كبيرة الحجم عندما يتم الاستفادة من التنقيح البشري اللاحق لمخرجات الترجمة الآلية. وخلصت هذه الدراسة مجددًا إلى أنه من غير الوارد أن يفقد المترجمون المحترفون وظائفهم أو أن تتقلص مهامهم الوظيفية إلى مجرد التحقق من الناتج الخام للترجمة الآلية.
من ذاكرات الترجمة إلى الترجمة الآلية
بدأ مقدمو برمجيات الترجمة ومقدمو خدمات الترجمة في دمج ذاكرات الترجمة المطورة خصيصًا لعملاء محددين في أنظمة الترجمة الآلية من أجل "تدريس" أنظمة الترجمة الآلية الخاصة بهم. وبناءً على ذلك، أصبحت ذاكراتهم الترجمية الجامدة منتجًا حيويًا مرتكزًا على الترجمة الآلية يمكن تكييفه وفقًا للغة المصدر واللغة المستهدفة، والنطاقات، وملخصات التكليف بأداء الترجمة. وتشتمل نماذج بيانات الترجمة الآلية التي
تُدَّرس حاليًا على ذاكرة جمعية TAUS 4 للبيانات، وذاكرة MyMemory) Translated.com)، وذاكرة جلوبال (الذاكرة الترجمية لأداة جوجل ترانسليت)، وذاكرة موقع Linguee.com.
وتسمح ذاكرات الترجمة المذكورة المصممة خصيصًا، التي تستفيد من بيانات الترجمة الآلية المتمرسة وتمتزج بها، للمترجمين البشريين، الذين يُعرفون أيضًا باسم المحررين المنقِحين، بتقديم ترجمة عالية الجودة. وعندما يرتبط المترجمون بمنصات ترجمة تعاونية تمكنهم من تبادل التعبيرات الاصطلاحية والعبارات والمصطلحات، تتزايد جودة الترجمة بشكلٍ أكبر.
الترجمة العربية
وفي المنطقة العربية، يؤكد عمر القدسي وشاكر (2014) على الحاجة لاستخدام الترجمة الآلية في عالم اليوم، الذي أصبح يشبه قريةً عالميةً؛ بهدف تعزيز التواصل الإلكتروني متعدد اللغات ومتباين الثقافات، بما في ذلك استخدام اللغة العربية في المحتوى المصدر والمستهدف. وفي ظل تقديم منتج ترجمة عالي الكفاءة، تعمل منتجات الترجمة الآلية، وبالأخص منتجات الترجمة الآلية الذكية مثل أداة جوجل ترانسليت، كأساس لرفع مستويات الترجمة من اللغة العربية وإليها إلى مستوى جودة الترجمة البشرية. ومن بين الجامعات والمعاهد البحثية المهتمة بهذه الظاهرة والتوجهات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة، ومعهد قطر لبحوث الحوسبة، الذي أنشأته مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع. ويُجري أعضاء هيئة التدريس حاليًا أبحاثًا وجهودًا دولية للتوحيد القياسي في مجال التحديات الصرفية المحددة المرتبطة باللغة والتحديات المرتبطة بتقنية التعرف الضوئي على الحروف، ومن المتوقع تطوير أنظمة ترجمة آلية قادرة على استيعاب السمات الخاصة باللغة العربية.
ويتعين أن تكون مناهج الترجمة في جميع أنحاء العالم مدركةً لأحدث التوجهات المعاصرة في مهنة الترجمة. وستؤدي الترجمة الآلية المتخصصة وعملية التنقيح اللاحق دورًا حيويًا في البرامج المُحَدَثَة. وفي الوقت نفسه، يجب أن نضع في اعتبارنا أن خريجي الترجمة يجب أن يتقنوا دائمًا أساسيات الترجمة ومبادئها، واستراتيجياتها لأنهم أصحاب القرار فيما يتعلق بمنتج الترجمة النهائي. وبالإضافة إلى فهمهم لاستراتيجيات الترجمة، يتعين على المترجمين كذلك فهم الخصوصيات الثقافية، والمؤسسية، واللغوية للجماهير المستهدفة. وفي هذا السياق، أجد أنها لحظة مناسبة للغاية أن أُذَّكِر بأن قسم دراسات الترجمة التحريرية والشفوية في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة سيطرح برنامجًا جديدًا للماجستير في التواصل بين الثقافات اعتبارًا من خريف عام 2020، حيث سيركز البرنامج على التواصل بين الثقافات واللغات المتعددة في بيئات متنوعة، وهي مجالات أساسية كذلك لخريجي أقسام الترجمة. ولتلبية الاهتمام المتزايد بدراسات الترجمة نظرًا لكونها جزءًا من عملية التواصل الثقافي، والعلوم الإنسانية الرقمية، وجهود تحقيق الاستدامة الاجتماعية، ويمكن القول إن برنامج الدكتوراه الجديد، الذي طرحته كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة، في العلوم الإنسانية والاجتماعية والمزمع انطلاقه في خريف 2019، قد جاء في وقته تمامًا.
نبذة عن الدكتور هندريك كوكارت
يشغل الدكتور هيندريك كوكارت منصب أستاذ ومدير دراسات الترجمة التحريرية والشفوية بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة حمد بن خليفة. وتشتمل مجالات اهتمامه البحثية على مبحث المصطلحات، والترجمة القانونية، وتكنولوجيا الترجمة. وقد أشرف الدكتور هيندريك على العديد من المشاريع البحثية ورسائل الدكتوراه حول المصطلحات، وتكنولوجيا الترجمة، وضمان جودة الترجمة. كما شغل من قبل منصب عميد بجامعة لوفين في مدينة أنتويرب البلجيكية. وقبل بدء حياته المهنية في بلجيكا وقطر، شغل الدكتور هيندريك منصب رئيس قسم اللغات الحديثة بجامعة سوازيلاند خلال الفترة من عام 1991 – 1999.