لماذا لا ينبغي لدولة واحدة أن تحتكر سوق الشرائح الالكترونية؟
بقلم: الدكتور ستيفن رايت
كان للدعم الحكومي الكبير، والاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، وتوافر القوى العاملة ذات المهارات المتميزة، أثرها الواضح في تجمُع أكبر شركات تصنيع الرقائق الالكترونية في العالم إلى حد كبير في شرق آسيا، وخاصة تايوان وكوريا الجنوبية، ونتيجة لذلك، فقد أثبتت شركات مثل TSMC و"سامسونغ" نفسها كشركات رائدة على مستوى العالم في قطاع التكنولوجيا والابتكار، ناهيك عن مجالات البحث والتطوير، وفي الوقت الذي كان فيه هذا التركُز الإقليمي عامل محفز للنمو الاقتصادي في هذه المنطقة، إلا أنه ينطوي أيضا على مخاطر جيوسياسية كبرى.
ويهدد التوتر بين القوى العالمية الكبرى في شرق آسيا بتعطيل إنتاج وتدفق الرقائق الالكترونية ، مما قد يتسبب في نقص واسع النطاق يمكن أن يضر بالقطاعات الصناعية والاقتصادية في كل مكان، ولاحظنا مؤخرا تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان، كما لا تزال كوريا الشمالية والجنوبية في حالة شد وجذب مستمرين، وأي تصاعد في وتيرة هذه النزاعات الجيوسياسية يمكن أن تُربك وتُقيد بشدة التجارة العالمية في الرقائق الإلكترونية والتقنيات المتقدمة التي تتيحها، وينبغي أن يكون هذا مصدر قلق لنا جميعا.
من الحقول إلى المصنع إلى خط التماس
نتيجة عقود من السياسة الحكومية بعيدة النظر، والجهود الحثيثة للقطاع الخاص، وعقد الشراكات التكنولوجية، أصبحت تايوان حاليًا تهيمن على التصنيع العالمي للرقائق الالكترونية ، وابتداء من سبعينيات القرن العشرين، سعت العاصمة التايوانية (تايبيه) للتحول من الاقتصاد الزراعي إلى صناعات أكثر تقدمًا وأعلى قيمة، وبعد محاولات كبرى في قطاعات أخرى، ركزت البلاد على إنتاج الرقائق الإلكترونية كأهداف ذات أولوية استراتيجية، وساهم في تنفيذ هذا الهدف، قيام العديد من الشركات الصغيرة المتخصصة لتصبح تايوان رائدة عالميًا في تصنيع الرقائق الالكترونية، مع الاستعانة بمصادر خارجية مثل الشركات الأمريكية وغيرها من الشركات العالمية الأخرى التي تسعى إلى خفض تكاليف الإنتاج وصقل الخبرات.
وغني عن القول أن تايوان لا تزال غير معترف بها بشكل كامل تقريبًا كدولة ذات سيادة من قبل المجتمع الدولي أو حتى الأمم المتحدة، كما أنها لا تزال في قلب التوترات الجيوسياسية الهائلة بسبب قدرتها التي لا مثيل لها على إنتاج الرقائق الالكترونية، وهذا هو السبب في أن التحولات الأخيرة في سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان، تعتبر مُضللة ومتهورة وتشكل تهديدا للاستقرار الدولي، بدءًا من إدارة ترامب، حيث تخلت واشنطن عن سياستها الطويلة الأمد المتمثلة في "الغموض الاستراتيجي" بشأن تايوان، لتعمل على تحدي الصين بشكل أكثر وضوحًا وقوة في هذه القضية، وهذه السياسات الاستفزازية تُقوّض "سياسة الصين الواحدة" الراسخة التي سهمت لعقود من الاستقرار في المنطقة، والتي تشهد حاليا مخاطر باندلاع تصعيد خطير حول ما تعتبره الصين هدف وطني مطلق وأساسي لها.
ومن الأمثلة على ذلك، اعتماد الولايات المتحدة على شركة TSMC التايوانية، والتي تستحوذ وحدها على أكثر من 50٪ من حصة السوق العالمي في صناعة الرقائق الالكترونية، وتنتج رقائق لشركات كبرى مثل Apple و Qualcomm و Nvidia، لذا فإن تأثر إنتاج شركة TSMC وقطاع الرقائق في تايوان سيكون كارثيًا للعديد من شركات التكنولوجيا الأمريكية والاقتصاد العالمي بشكل كامل، وفي حين أن موقف واشنطن المعلن يتعلق بالدفاع عن ديمقراطية نائية، فمن المشكوك فيه أن يكون نفس الاهتمام موجودا لولا السياق الأوسع للتنافس بين الصين والولايات المتحدة على التفوق التكنولوجي.
وبناء على ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تخاطر فقط بإشعال مواجهة لا يمكن التنبؤ بتداعياتها ونتائجها، بل تضر أيضا بسلامة سلاسل التوريد التي يعتمد عليها التقدم التكنولوجي في العالم، وتهدد التوترات المتصاعدة بشأن تايوان بتعطيل التدفقات التجارية التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، حتى مع استمرار اعتماد شركات التكنولوجيا الأمريكية بشدة على التصنيع التايواني، إذ تتطلب استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين دبلوماسية حكيمة، وليس استفزازا يمكن أن يؤدي إلى صراع حول قضايا عالمية مثل تايوان.
الدروس المستفادة
ينبغي على صانعي السياسات في واشنطن أن يدركوا أن استراتيجيتها الجديدة المتمثلة في تحييد التهديدات الصينية ستؤدي حتمًا إلى انقسام كبير مع مستويات أعلى من المخاطر مصحوبة بانعدام الثقة، وكقوة صاعدة، تحتاج الصين إلى مساعدتها للانخراط كدولة حضارية في المجتمع الدولي، بدلا من بذل الجهود للحد من نفوذها أو قوتها على المسرح العالمي، وهناك حاجة ماسة إلى التعاون والتعايش، وليس المواجهة المفتوحة، للتغلب على التحديات المختلفة في التجارة والتكنولوجيا وتغيُر المناخ والأمن العالمي، ولاشك أن التصعيد المتهور بشأن تايوان لا يفيد أحدا في حين أن المنافسة والتنسيق المتوازنين يخدمان الجميع.
وفي حين أن عقودا من الاستثمارات في مناطق عديدة بجميع أنحاء العالم ساهمت في تطوير مزايا تنافسية في الصناعات الاستراتيجية مثل الرقائق الالكترونية، فإن الاعتماد المفرط على أي منطقة واحدة يشكل تهديدات تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة، ففي عام 2021، واجهت الشركات في جميع أنحاء العالم نقصًا في الرقائق الالكترونية، مما يدل على كيف يمكن أن تنتشر نقاط الضعف في سلاسل التوريد العالمية بسرعة وتسبب ضررا دائما، والتي تعد من أهم التحديات التي كشفت مخاطر تركُز الإنتاج في مناطق محددة، وخاصة تلك التي تخضع للتوترات الجيوسياسية، وسيتطلب الحد من هذه المخاطر تنويع الإنتاج على الصعيد العالمي عبر مناطق متعددة، حيث تثبت الأحداث العالمية الأخيرة أنه لا ينبغي لأي منطقة أن تهيمن على أي سلسلة توريد استراتيجية، ويوفر التنويع فوائد كثيرة، ويظهر ذلك بشكل واضح في صناعات مثل المستحضرات الصيدلانية، حيث تسبب الاعتماد المفرط على عدد قليل من الدول في حدوث نقص ضار في هذه المستحضرات، ولكنه في نفس الوقت ساهم أيضًا في تحفيز العمل لتطوير بدائل إقليمية.
وفي الواقع تُقدم تجارب الدول التي كانت تسعى في السابق إلى الاستحواذ على حصة سوقية في مجال الرقائق الإلكترونية دروسًا واقعية، فقد استغرقت سنغافورة أكثر من عقدين وأنفقت مليارات الدولارات لدعم شركة تشارترد لتصنيع أشباه الموصلات (CSM) لتأسيس صناعة محلية، لكنها فشلت في النهاية، ثم اندمجت CSM في Global Foundries. ورغم الحوافز الحكومية والإعانات وتوافر القوى العاملة، إلا أنه CSM لم تتمكن من التغلُب على رواد الصناعة في الصين، والمنافسين الكبار الأقل تكلفة مثل شركة TSMC. وبينما تكافح من أجل الارتقاء بإنتاجها، فإن CSM ظلت تعاني من انعدام الأرباح حتى تجاوزت التكاليف قدراتها، وعلى الرغم من أن سنغافورة تحتفظ بصناعة رقائق الكترونية دقيقة قوية، إلا أن CSM وجدت صعوبة كبيرة في الظهور كشركة وطنية رائدة، حتى لو كان تأسيسها من قبل حكومة ذات أهداف استراتيجية.
وفي الوقت الذي تُجسد فيه CSM التحديات التي تواجهها الشركات المدعومة من الدولة في هذا القطاع، إلا أن الالتزامات والاستثمارات الحكومية طويلة الأجل لا تزال قادرة على خلق فرص مواتية، حيث أعلنت كوريا الجنوبية مؤخرا عن خطط لبناء أكبر مركز لتصنيع الرقائق الالكترونية في العالم بتكلفة 230 مليار دولار. ومن جانب آخر فإن التوسع الدولي لشركة TSMC يهدف إلى الحفاظ على ريادتها العالمية على مدار السنوات القادمة من 10 إلى 20 عامًا، مما يشير إلى أن العالم سوف يشهد ضخ المزيد من الاستثمارات الرأسمالية وتحقيق التنويع الجغرافي العالمي المأمول في إنتاج الرقائق.
مركز إقليمي خليجي
جلْبُ شراكاتٍ جديدة، أو السعيُ الاستراتيجيُ نحو إيجاد قنواتٍ جديدة لتنويع سلاسل الإمداد، يمثلان خياراتٍ جذابة لمنطقة الخليج، فإنشاء مجمعات بحثية إنتاجية مشتركة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والاتصالات المتقدمة، يمكن أن يسهم في تعزيز الابتكار إقليميَا وتحفيز نموٍ اقتصادي أوسع نطاقًا على المدى الطويل. ومع ذلك، قد يتطلب تطوير شراكات طموحة من هذا القبيل، وتأسيس مجمعات صناعية استراتيجية، عقودًا عديدة من الدعم والالتزام المستمريْن، على ألا يتعرض هذا الجهد للتشويش من التوترات التي قد تنشأ من حينٍ لآخر مع الأسف.
وأحد المسارات الخصبة التي يُمكن أن ينظر مجلس التعاون الخليجي في الاستثمار فيها هو تطوير مركز إقليمي قوي للبحث والتطوير والتصنيع يركز على إنتاج أحدث الرقائق الإلكترونية والمكونات الهامة الأخرى لقطاع التكنولوجيا المتقدمة. ويمكن أن تبدأ هذه الجهود ببناء شراكات تعاونية على المستوى الاستراتيجي ثم التوسّع فيها تدريجيًا لتشمل مجالات أخرى ذات أولوية مثل الذكاء الاصطناعي، الذي يُعتبر ضروريًا لترسيخ اقتصادٍ قائم على المعرفة المستدامة في القرن الحادي والعشرين.
وتحقيقًا لهذه الرؤية سيتطلب من مجلس التعاون الخليجي تفاعلًا رشيدًا ومتزنًا مع شركاء عالميين بارزين، مثل الولايات المتحدة والصين، وهذا التفاعل المدروس هو السبيل الأمثل الذي سيمكّن منطقة الخليج من الاستفادة من موقعها الاستراتيجي وعلاقاتها لمواكبة عصر المنافسة الاستراتيجية العالمية المتصاعدة ضمن نظام عالمي متزايد الأقطاب. وبشكلٍ عام، يمكن أن يؤدي التنويع الحكيم للشراكات وسلاسل التوريد إلى تحقيق فوائد اقتصادية وجيوسياسية ضخمة لأعضاء مجلس التعاون الخليجي إذا تم تنفيذه باستراتيجية منظّمة طويلة المدى.
إن التقدم المستمر في مجال الذكاء الاصطناعي، وتقنية الجيل الخامس، وغيرها من المجالات، سوف يؤدي إلى مزيد من الطلب على الرقائق الإلكترونية، فمن خلال التنوّع، والتعاون، والدعم الحكومي العابر للحدود للبحث والتطوير، والحوافز التي تعزز من قوة سلاسل الإمداد، سيصبح قطاع تصنيع الرقائق أكثر قدرة على التصدي للمخاطر الجيوسياسية بما يضمن تمكين الابتكار وتحقيق النمو في المستقبل. وعلى الرغم من أن المزايا التنافسية دفعت إلى تركيز الإنتاج تاريخياً بشكل كبير في مناطق شرق آسيا، إلا أن الاعتماد المفرط على منطقة واحدة يشكل تهديدًا يتطلب حلاً عالميًا، ولاشك أن تصنيع الرقائق ضروري للازدهار، لكن سلاسل الإمداد العالمية تظل هشة إن لم يكن فيها مجال للتنوع والتعاون بين الأطراف المؤثرين في هذا المجال.
ولا يزال المستقبل غامضًا، لكن هناك أمرٌ واحدٌ واضح: هو أنه لا يمكن ترك قطاع تصنيع الرقائق عرضة للتأثيرات الجيوسياسية، فالعراقيل المنصوبة أمام التعاون التجاري والتكنولوجي لن تؤدي إلا إلى تقويض التقدم المشترك، ومفاقمة الانقسام العالمي، وزيادة حدة المنافسات الجيوسياسية، وعوضًا عن ذلك، فإنه يمكن لتنسيق الشراكات البحثية الدولية، وتقديم برامج تأهيل القوى العاملة، وتوفير حوافز للإنتاج دوليًا أن يسهم في مواجهة التحديات وتأمين مستقبل صناعة الرقائق بما يضمن تحقيق النمو على المستوى العالمي. وهناك حاجة إلى الانفتاح والتنوّع وبناء الشراكات العابرة للحدود لتمكين قطاع الرقائق من الاستمرار في تشغيل التقنيات التي تعمل على تحسين الحياة في جميع أنحاء العالم، والمستقبل سيكون هشًا ما لم يكن هناك التزام بالتقدم المشترك، فالعمل الجماعي اليوم يبشّر بمستقبلٍ مشرق للتكنولوجيا غدًا.
*الدكتور ستيفن رايت الأستاذ المشارك، والعميد المشارك لشئون الطلاب في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حمد بن خليفة.
*هذا المقال مقدّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن كاتبه، والآراء الواردة فيه تعبر عن أفكاره، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.